الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***
كتاب الذخيرة مبتكر في الفقه المالكي فروعه، وأصوله، بدع من مؤلفات عصره التي هي في الأعم اختصارات، أو شروح، وتعليقات، وربما كانت الذخيرة أهم المصنفات في الفقه المالكي خلال القرن السابع الهجري، وآخر الأمهات في هذا المذهب إذ لا نجد لكبار فقهاء المالكية المغاربة، والمشارقة الذين عاصروا القرافي، أو جاءوا بعده سوى مختصرات لم تعد - على ما أدركت من شهرة وانتشار - أن كرست - عن غير - قصد تعقيد الفقه، وإفراغه من محتواه النظري الخصب، وأدلته الاجتهادية الحية ليصبح في النهاية مجرد حك ألفاظ، ونقاش عقيم يدور في حلقة مفرغة لا تنتج، ولا تفيد. وإذا كان المذهب المالكي تركز أكثر في الجناح الغربي من العالم الإسلامي فإنه قطع أشواطا متميزة قبل أن يصل إلى تعقيدات عصر القرافي، فقد كانت القيروان بالنسبة لهذا الجناح الغربي منطلق إشراق الفقه المالكي، وأفوله معا، ففيها نشر أسد بن الفرات (ت 213) المدونة الأولى التي حوت سماعاته من مالك، وغيره المعروفة بالأسدية، فأخذها سحنون عبد السلام بن سعيد (ت 240)، وصححها على ابن القاسم، وسمع من أشهب، وابن وهب، وغيرهم من تلاميذ مالك، ورجع إلى القيروان بالمدونة الكبرى التي نسخت الأسدية، وجمعت ستة وثلاثين ألف مسألة، فانتشرت في أقطار المغارب، والأندلس، وظلت ركيزة المذهب المالكي، ومرجع فقهائه طوال القرون الأولى وفي القيروان لاحظ أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني (ت 386) كسل الهمم عن إدراك مدونة سحنون، فاختصرها اختصارا غير مخل حل محلها، وعفى على الاختصارين الأندلسيين السابقين لفضل بن سلمة الجهني (ت 319)، ومحمد بن عيشون الطليطلي (ت 341)، ولسوء الحظ قام في القيروان أيضا خلف بن أبي القاسم البراذعي المتوفى أوائل القرن الخامس باختصار مختصر شيخه ابن أبي زيد القيرواني للمدونة سماه التهذيب، فتقبله الناس بقبول حسن، وقد ازدادوا حاجة إلى الاختصار حتى إذا جاء أبو عمرو بن الحاجب الدمشقي (ت 646)، واختصر التهذيب، فزاده تعقيدا، وطم السيل مع خليل بن إسحاق المصري (ت 749) الذي اختصر مختصر ابن الحاجب في بضعة كراريس، فأصبح مختصر خليل المختصر الرابع في مسلسل مختصرات المدونة عبارة عن رموز لا تفهم، يحفظ عن ظهر قلب، ويقرأ أحزابا في جامع القرويين، وغيره، ولا تفك رموزه إلا بالرجوع إلى عشرات المجلدات من الشروح، والحواشي، والتعليقات - دون إدراك روح التشريع طبعا - وغدا بعض المدرسين (المحققين) لا يختم مختصر خليل إلا بعد أربعين سنة، وبذلك تقرر جمود الفقه، وتحجره، واستمر إلى أيامنا هذه اعتمد القرافي في الذخيرة على نحو أربعين من تصانيف المذهب المالكي، وخص خمسة منها كمصادر أساسية يرجع إليها دائما، ويقارن بينها، ويناقش، وكلها كتب مستقلة مبتكرة أصيلة: مدونة سحنون القيرواني، والتفريغ لعبيد الله بن الجلاب البصري (ت 368)، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني، والتلقين للقاضي عبد الوهاب البغدادي (ت 422)، والجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لعبد الله بن شاس المصري (ت 610) وتميزت الذخيرة - إلى ذلك - بدقة التعبير، وسعة الأفق، وسلاسة الأسلوب، وجودة التقسيم، والتبويب، الأمر الذي يضفي عليها من جهة أخرى طابع الجدة، والحداثة حتى لكأنها كتبت في عصرنا الحاضر بقلم أحد أعلام الفقه والقانون. تظهر عبقرية مؤلف الذخيرة، وموسوعيته التي سنتحدث عنها بعد قليل في مزجه بين الفقه، وأصوله، واللغة، وقواعدها، والمنطق، والفلسفة، والحساب، والجبر، والمقابلة في المواطن التي تقتضيها، وفي وضعه مصطلحات دقيقة، ورموزا واضحة تختصر أسماء الأشخاص، والكتب التي يكثر تداولها في الذخيرة تقليلا للحجم، فكلمة الأئمة تعني عنده الشافعي، وأبا حنيفة، وابن حنبل، و ش ترمز للشافعي، و ح لأبي حنيفة، والصحاح تعني الموطأ، وصحيحي البخاري، ومسلم، ونجد في الذخيرة داخل الأبواب، والفصول، والمباحث، والفروع المعتادة عناوين فرعية تضبط المعلومات الإضافية، وتحددها، وتبرزها، أمثال: تمهيد - تحقيق - تفريع - تنقيح - تحرير - تذييل - قاعدة - فائدة - نظائر - فروع مرتبة ويمكن أن يعد من مميزات الذخيرة كذلك عناية المؤلف بإبراز أصول الفقه المالكي دحضا للشبهات التي علقت بالأذهان منذ قديم، قاصرة أصول الفقه بالنسبة للمذاهب الأربعة على الإمام الشافعي، واعتباره هذا الفن برسالته التي حددت منهاجه في استنباط الأحكام من القرآن، وكتب أخرى له في القياس، وإبطال الاستحسان، واختلاف الأحاديث وإذا كان القرافي مسبوقا في هذا المضمار بما كتبه القاضي أبو بكر بن العربي المعافري المتوفى بفاس عام في شرحيه على الموطأ، القبس، وترتيب المسالك مما يدل على سبق مالك في بناء مذهبه الفقهي على قواعد أصولية محكمة لا شك أن تلميذه الشافعي أخذها عنه، ووسعها، وألف فيها الرسالة، والكتب المذكورة، فانتشرت حتى أصبحت الأصول علما مستقلا بذاته إذا كان ذلك، فإن مزية مؤلف الذخيرة أن جعل من شرطه فيها تتبع الأصول في مختلف الأبواب قائلا في المقدمة: وبينت مذهب مالك - رحمه الله - في أصول الفقه ليظهر علو شرفه في اختياره في الأصول كما ظهر في الفروع، ويطلع الفقيه على موافقته لأصله، أو مخالفته له لمعارض أرجح منه، فيطلبه حتى يطلع على مدركه، ويمنع المخالفين في المناظرات على أصله. نتج عن كل ما سبق دعوة عامة في الكتاب إلى الاجتهاد، ونبذ التقليد الأعمى في الأحكام الفقهية، إذ علاوة على المقدمة الثانية للذخيرة في أصول الفقه، وقواعد الشرع التي خصص المؤلف البابين التاسع عشر، والعشرين منها للاجتهاد، وجميع أدلة المجتهدين قائلا في حكم الاجتهاد: ومذهب مالك، وجمهور العلماء - رضوان الله عنهم - وجوبه وإبطال التقليد لقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) وقد استثنى مالك - رحمه الله - أربع عشرة صورة للضرورة . علاوة على ذلك لا يكاد المؤلف يأتي بمسألة من مسائل فروع العبادات، أو المعاملات إلا أبان أصل حكمها، وحجج المختلفين فيها من الأئمة، والفقهاء مبرزا أدلة المالكية بصفة خاصة بعد عبارة لنا دون إغفال أدلة الآخرين سيرا مع الخطة التي قررها في المقدمة، وقد آثرت التنبيه على مذهب المخالفين لنا من الأئمة الثلاثة، ومآخذهم في كثير من المسائل تكميلا للفائدة، ومزيدا من الاطلاع، فإن الحق ليس محصورا في جهة فيعلم الفقيه أي المذهبين أقرب للتقوى، وأعلق بالسبب الأقوى وتتكرر في الذخيرة عبارات ليكون الفقيه على بصيرة.. ليستدل الفقيه.. تحفيزا للهمم على إعمال الفكر، وإمعان النظر، واستنكافا عن التقليد، والجمود، وأخذ المسائل أحكاما مسلمة. المؤلف مؤلف الذخيرة هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يلين الصنهاجي الملقب بشهاب الدين المعروف بالقرافي، وبالمالكي، وقد اتفق مترجموه على أنه ينسب للقرافة، ولم يسكنها، متناقلين ما رواه ابن فرحون في الديباج ص عن الرحالة ابن رشيد السبتي صاحب ملء العيبة أن بعض تلاميذ المؤلف ذكر له أن سبب شهرته بالقرافي أنه لما أراد الكاتب أن يثبت اسمه في بيت الدرس كان حينئذ غائبا، فلم يعرف اسمه، وكان إذا جاء للدرس يقبل من جهة القرافة، فكتب القرافي، فمرت عليه هذه النسبة، وأكد الصفدي في الوافي بالوفيات 6: مضمون هذه الرواية مضيفا أن السؤال عن المؤلف كان عند تفرقة الجامكية لمدرسة الصاحب بن شكر، فقيل هو بالقرافة، فقال اكتبوه القرافي، فلزمه ذلك . ويضيف أصحاب كتب التراجم ثلاث نسب أخرى للمؤلف هي البهفشيمي، والبهنسي، والمصري، وقد فسر الصفدي في الوافي بالوفيات 6: النسبة الأولى قائلا: إن أصله من قرية من كورة بوش من صعيد مصر الأسفل تعرف ببهفشيم في حين تشكك فيها ابن فرحون في الديباج ص قائلا: لعلها قبيلة من قبائل صنهاجة كما تشكك في كون أصله من بهنسا في الصعيد المصري قائلا إن ذلك مما ذكره بعضهم تبقى إذن النسبة الأصلية المتفق عليها للمؤلف هي الصنهاجي، وصنهاجة من أكبر قبائل البربر بجنوب المغرب الأقصى، وهي أرومة دولة المرابطين مؤسسي مدينة مراكش الذين شمل نفوذهم معظم الغرب الإسلامي من أقصى بلاد الأندلس شمالا إلى بلاد السودان جنوبا في فترة تمتد من منتصف القرن الخامس الهجري إلى منتصف القرن السادس 1144-1061/ 539-453 يؤكد هذه النسبة الصنهاجية للمؤلف اسم جده الثالث يلين الذي ينطق به في اللهجة الصنهاجية تماما كما ضبطه ابن فرحون بياء مثناة من تحت مفتوحة، ولام مشددة مكسورة، وياء ساكنة مثناة من تحت، ونون ساكنة، وأصله كما أكده الزميل أحمد التوفيق بالهمزة إيلين سهلت ياء كما هو شأن الصنهاجيين في النطق بمثل هذه الكلمات، وهو عندهم من جذر إل بكسر الهمزة، وسكون اللام المشددة المفخمة بمعنى البحر، والخال، والسواد، فإيلين، أو يلين بصيغة الصفة تعني المسود، أو الأسمر، والسمرة شائعة عند الصنهاجيين الذين تتاخم مواطنهم في جنوب المغرب بلاد السودان. يتجلى من كل ما سبق أن أحمد بن إدريس الصنهاجي مؤلف الذخيرة مغربي صميم بدون ريب، ولا لبس، صرح بمغربيته كثير ممن ترجموا له قديما، وحديثا، وجزم بها بعضهم مثل عبد الرءوف سعد الذي قال في تقديمه لشرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول للقرافي، ولا ريب في أن مؤلفنا - رضي الله عنه - مغربي ما في ذلك شك (طبعة القاهرة 1973 - ح -) ومما يؤكد استبعاد ولادة المؤلف في بهنسا، أو بهفشيم، ويبين غربته في مصر، وطروه عليها أنهم لم يكونوا يعرفون حتى اسمه بله مسقط رأسه، وهو طالب نابه يدرس بإحدى المدارس الشهيرة في القاهرة، ويستحق الجامكية لا يعرف تاريخ ولادة المؤلف باتفاق أصحاب كتب التراجم كما لا يعرف تاريخ انتقاله إلى مصر منفردا، أو مع أبيه، وإن كان الراجح أن أحمد هو الذي خرج إلى مصر بعد أن بلغ مبلغ الرجال يدل على ذلك أن من بين شيوخه وتلامذته مغاربة، وأندلسيين كما سنرى، والأقرب إلى المنطق أن يتم الاتصال بهم في بلده قبل أن يهاجر إلى مصر، وأن والده إدريس لم يشتهر بعلم، ولا تجارة تدعوانه إلى الالتحاق بمصر، وإن كان هناك احتمال الخروج إلى الحج، أو طلب الرزق في وقت لم يكن المسلمون يقيمون وزنا للحدود السياسية الوهمية، ويعتبرون أرض الإسلام واحدة سواء في المغرب، أو المشرق. وعلى افتراض أن المهاجر هو أحمد، فإننا نقدر أن يكون خروجه من المغرب خلال العقد الخامس من القرن السابع في فترة الاضطراب التي عرفتها نهاية دولة الموحدين، وقبل أن تتمكن قدم المرينيين مع يعقوب بن عبد الحق سنة 1258/656، وإذا قدرنا أنه كان آنذاك في الثلاثين من عمره، فتكون ولادته حوالي عام 1223/626 كما استنتج ذلك إسماعيل البغدادي في إيضاح المكنون. أخذ أحمد القرافي عن شيوخ كثيرين أشهرهم خمسة محمد بن عمران المعروف بالشريف الكركي الملقب بشرف الدين، وهو مغربي، ولد بفاس، وتفقه فيها على يد أبي محمد صالح الهسكوري صاحب التقييد الشهير على الرسالة المتوفى بفاس سنة 653. قال عنه تلميذه القرافي إنه تفرد بمعرفة ثلاثين علما وحده، وشارك الناس في علومهم، وقد هاجر الشريف الكركي أيضا إلى مصر، ولعل ذلك تم في نفس فترة الاضطراب بين الدولتين الموحدية، والمرينية التي أشرنا إليها آنفا، وشارك تلميذه القرافي في الأخذ عن سلطان العلماء العز بن عبد السلام، فكثر الآخذون عن الكركي، وانتشر علمه هناك حتى عد شيخ المالكية والشافعية بمصر والشام، وتوفي بمصر سنة 12988. وأخذ القرافي كذلك عن أبي بكر محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن علي الإدريسي، وهو مغربي أيضا هاجر إلى المشرق، وعرف فيه بابن أبي سرور المقدسي الحنبلي، ولقب بشمس الدين يقولون إنه ولد، وتفقه بدمشق، وأقام مدة ببغداد قبل أن ينتقل إلى مصر حيث تصدر للتدريس، وكان أول من ولي منصب قاضي قضاة الحنابلة بالديار المصرية، وبقي بها إلى أن مات عام 1277/676، ودفن بالقرافة. لم يذكر أصحاب كتب التراجم من صلة القرافي به سوى أنه سمع عليه مصنفه المعنون بوصول ثواب القرآن، مع أن لأبي بكر الإدريسي مؤلفات أخرى ككتاب الجدل، وعيون الأخبار، وأصول القراءة. وتتلمذ القرافي أيضا لأبي عمرو عثمان ابن الحاجب الشامي ثم المصري مؤلف المختصرات الشهيرة في أصول الفقه وفروعه المالكية، والكافية، والشافية في النحو والصرف، وغيرها من كتب القراءات، والبلاغة، وربما لم تطل مدة أخذ القرافي عن ابن الحاجب الذي توفي سنة 1248/646 كما أخذ القرافي المعقولات عن إمامها شمس الدين عبد الحميد بن عيسى الخسروشاهي تلميذ الإمام الرازي، وشارح كتبه، ولا يعرف إن كان الأخذ عنه تم في الشام، أو مصر لأن المعروف في كتب التراجم أن الخسروشاهي انتقل من مسقط رأسه بفارس إلى الشام ثم الكرك، ورجع أخيرا إلى دمشق حيث توفي عام 1254/652. على أن أعظم شيوخ القرافي بالمشرق هو سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام الشامي الأصل قاضي مصر، وخطيب جامع عمرو بن العاص، ومدرس الصالحية مؤلف قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ومجاز القرآن، وغيرهما لازمه القرافي طويلا في مجالسه العلمية المتنوعة حتى الفقهية، ولو أن العز كان شافعيا إلى أن مات عام 1261/660، ويظهر أثر ذلك جليا في الذخيرة حين يفصل القرافي القول في فروع الشافعية أكثر من المذاهب الأخرى عندما يقارنها بآراء فقهاء المالكية. لكن رغم إعجاب القرافي بشيخه عز الدين بن عبد السلام، فإنه لا يتردد في انتقاده، والرد على مذهبه متى عنت له الحقيقة، وبدا وجه الصواب شأنه في ذلك مع الشيخين خسروشاهي، والرزاي في مناقشة آرائهما، ومخالفتها أحيانا في شرح المحصول. وهناك عالم آخر تصنفه كتب التراجم من بين شيوخ القرافي، وأظنه تلميذه هو محمد بن إبراهيم البقوري بباء موحدة نسبة إلى بقور بلد بالأندلس عاش في بلاط المرينين بفاس، وزار مصر، والحجاز حين أرسله أبو يعقوب يوسف المريني 685-1286/706-1306 إلى المشرق، ومعه مصحف قرآن حمل بغل ليوقف بمكة، وكانت وفاة البقوري بمراكش عام 1307/707، وقبره بها مزارة مقصودة، ومن بين مؤلفاته حاشية على كتاب القرافي، في الأصول، وذلك مما نستدل به على أنه تلميذ له لا شيخ. ومن تلاميذ القرافي المغاربة الذين عنوا بكتبه، وشرحوها، ونشروها أحمد بن عبد الرحمن التادلي الفاسي المتوفى عام 13401 شارح التنقيح، وقاسم ابن الشاط الأنصاري السبتي المتوفى عام 1323 صاحب أنوار البروق في تعقب الفروق، وقد حظي هذا الكتاب الأخير لدى الفقهاء عموما، والمغاربة منهم بصفة خاصة حتى اشتهرت فيه قولتهم: عليك بفروق القرافي، ولا تقبل منها إلا ما سلمه ابن الشاط . ومحمد بن عبد الله بن راشد البكري القفصي المؤلف المكثر المتوفي بتونس عام 13356 الذي أجازه القرافي بالإمامة في أصول الفقه. ونشير إلى أن محمد بن رشيد السبتي صاحب ملء العيبة قصد بدوره أحمد القرافي للأخذ عنه في مصر لكنه لم يتمكن من ذلك، فكتب في رحلته أسفا: دخلت مصر عقب وفاته بثمانية أيام، ففات لقاؤه، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وكانت وفاته يوم الأحد متم جمادى الأخيرة عام أربعة وثمانين وستمائة، ودفن يوم الاثنين غرة رجب، فلقيت أصحابه، وقد فرق جمعهم. يحدد هذا النص علاوة على ما يفهم منه من كثرة تلامذة القرافي المشارقة، وتعلقهم به تاريخ وفاته، ودفنه بما لا مزيد عليه من الدقة، فلا يلتفت إلى ما يخالفه في بعض كتب التراجم. كان القرافي كما يقول تلميذ تلاميذه الصلاح الصفدي حسن الشكل، والسمت، درس بجامع مصر، وبمدرسة طيبرس، وبمدرسة الصالحية بعد وفاة شرف الدين السبكي إلى أن مات وهو مدرسها. وألف عشرات الكتب في مختلف فروع المعرفة تشهد بمشاركته الواسعة في العلوم العقلية، والنقلية، فكتب في أصول الدين، وأصول الفقه، وفروع المذهب المالكي، والفقه المقارن، والفتاوى، والأحكام، والتوقيت، والتعديل والحساب، والجبر، والهندسة، والفرائض، والديانات، وقواعد اللغة، وإلى جانب هذه العلوم النظرية كان القرافي صناع اليد يحسن عمل التماثيل المتحركة في الآلات الفلكية وغيرها، نقل عن كتابه شرح المحصول كما جاء في كتاب التصوير عند العرب ص قوله: بلغني أن الملك الكامل من سلاطين الدولة الأيوبية بمصر 576-635هـ وضع له شمعدان كلما مضى من الليل ساعة انفتح باب منه، وخرج منه شخص يقف في خدمة الملك، فإذا انقضت عشر ساعات طلع الشخص على أعلى الشمعدان، وقال: صبح الله السلطان بالسعادة، فيعلم أن الفجر قد طلع . قال: عملت أنا هذا الشمعدان وزدت فيه أن الشمعة يتغير لونها في كل ساعة، وفيه أسد تتغير عيناه من السواد الشديد إلى البياض الشديد إلى الحمرة الشديدة في كل ساعة لها لون، فإذا طلع الفجر طلع شخص على أعلى الشمعدان، وأصبعه في أذنه يشير إلى الأذان غير أني عجزت عن صنعة الكلام . توفي أحمد القرافي بدير الطين من القاهرة يوم الأحد متم جمادى الأخيرة عام شتنبر 1285، ودفن يوم الاثنين فاتح رجب بالقرافة القريبة من قبر الإمام الشافعي. مخطوطات الذخيرة. تنتشر مخطوطات الذخيرة في عدد من مكتبات المغرب، والمشرق، وتختلف تجزئاتها التي وقفنا عليها من ستة إلى عشرين جزءا، وأكثرها تداولا الثمانية ليس فيها ما كتب في حياة المؤلف، وأقدمها، وأجودها ما في خزائن المغرب: القرويين بفاس، وابن يوسف بمراكش، والخزانة الحسنية، والخزانة العامة بالرباط. ففي القرويين ثلاثة أجزاء فهرست – تجاوزا - بالخامس، والسادس، والثامن بينما الخامس مختلط معظمه مكرر مع الثامن يبتدئ بكتاب الجنايات، وينتهي بتمام الجامع، وباقيه مكرر من نسخة أخرى مع السادس بكتاب الوصايا، وهو بخط عبد الملك بن محمد بن عبد الملك الحضرمي كتب في العشر الآخر لربيع الأول من عام سبعة وعشرين وسبعمائة أي بعد وفاة القرافي بخمس وأربعين سنة، والسادس من نسخة أخرى متلاشية يبتدئ ببقية كتاب الوقف ثم كتاب الوصايا، والثامن أهم الأسفار الثلاثة ضخامة مادة، وجمال خط يبتدئ بكتاب أمهات الأولاد، فالجنايات، فموجبات الضمان، فالفرائض، والمواريث، فالجامع حتى نهاية الكتاب، وينقصه في الأخير صفحة، أو صفحتان. وفي خزانة ابن يوسف ستة أسفار من الذخيرة مختلفة التجزئات، والخطوط، والجودة، والصيانة معظمها من العصر السعدي انتسخت لملوكهم، أو أوقفوها على طلبة العلم بخزائن جوامع المدينة، وقد فهرس كل جزء حسب تجزئة نسخته، وأعطي الرقم المناسب لها في الفهرس، فالجزء الرابع في فهرس الخزانة مثلا يبتدئ من حيث يقف الجزء الأول، ولا شك أنه الرابع في نسخة مجزأة إلى اثني عشر جزءا بينما الأول من نسخة سداسية لذلك رتبنا الأجزاء حسب تسلسل موادها، ونبهنا مع ذلك على أرقامها في الخزانة ليسهل الرجوع إليها. الجزء الأول تام صين في الجملة بخط أندلسي دقيق جميل ينتهي بتمام صلاة الخوف الذي يليه كتاب الجنائز، وقد تم نسخه في التاسع عشر من شهر ذي الحجة عام تسعة وعشرين وسبعمائة أي بعد سنتين من تاريخ نسخ مخطوطة القرويين العتيقة. ويبتدئ الجزء الثاني (الرابع في فهرس الخزانة) بكتاب الجنائز، وينتهي بتمام كتاب الصيد، وهو أيضا تام صين في الجملة بخط مغربي واضح انتسخ في منتصف رمضان عام اثنين وخمسين وتسعمائة بمدينة تيوت بالسوس الأقصى، وكانت في ذلك التاريخ مدينة مهمة بضواحي الحاضرة الأولى للدولة السعدية مدينة المحمدية المسماة اليوم تارودانت، وكتب الناسخ اسمه مبهما بهيئة طغراء العدول. والجزء الثالث (الخامس في فهرس الخزانة) صين يبتدئ بكتاب النكاح مشتملا على الأبواب الثلاثة الأولى منه في أقطاب العقد، وينتهي مبتورا أثناء الباب الرابع في القطب الرابع الذي هو العقد نفسه، وقد ضاع منه بقية كتاب النكاح، وكتاب الطلاق كله، والقسم الأول من كتاب البيوع، ولم نعثر على ذلك للأسف في أية نسخة أخرى، ولم يبق في هذا الجزء سوى اثنتين وخمسين ورقة، وهو من تحبيس السلطان محمد المهدي الشيخ على جامع القصبة بمراكش بتاريخ أواخر ذي العقدة عام ثلاثة وستين وتسعمائة. والجزء الرابع (الثالث في فهرس الخزانة) أطول حجما من باقي الأجزاء، وأكثرها مادة من نسخة ملوكية حبسه أولا السلطان السعدي عبد الله الغالب على خزانة الجامع الجديد (المواسين) بمراكش بتاريخ أواخر صفر عام ثمانية وسبعين وتسعمائة ثم حبسه السلطان العلوي محمد بن عبد الله على طلبة العلم بمراكش عام 1195، وهو بخط مغربي مجوهر إلا أنه غلف للصيانة بالبلاستيك الشفاف، فطمست بعض سطوره يبتدئ بالقسم الثاني من كتاب البيوع تليه الأقسام الخمسة الأخرى، فكتب الصلح، والإجارة، والجعالة، والقراض، والمساقاة، والمزارعة، والمغارسة، وإحياء الموات، والهبة، والصدقة، والعدة، والوقف، والوصايا، والقسمة، وينتهي مبتورا أثناء كتاب الشفعة، وهنا يفتقد في مخطوطات خزانة ابن يوسف أبواب عديدة من كتاب الوكالة إلى كتاب الشهادات. والجزء الخامس (السابع في فهرس الخزانة) صين في الجملة بخط مغربي دقيق مليح يدمج أحيانا، فتتعذر قراءة بعض كلماته يبتدئ مبتور الورقة الأولى من كتاب الوثائق تليه كتب الدعاوى، والإيمان، والعتق، والتدبير، والكتابة، وأمهات الأولاد، والجنايات إلى تمام الحرابة، وهو بخط محمد بن إبراهيم بن عبد العزيز أتم نسخه في ربيع الثاني عام 943. أما السفر الأخير من مخطوطات ابن يوسف الذي كتب عليه الجزء الثامن في الفهرس، فيشتمل في الواقع على الجزئين السابع، والثامن من نسخة ثمانية كتبت جزءين جزءين في أربعة أسفار، وقد غلفت أيضا صفحات هذا السفر للصيانة بالبلاستيك الشفاف، فطمس كثيرا من الكلمات التي أصبحت قراءتها متعذرة يبتدئ السابع مبتورا بالكلام على التدبير، والكتابة، وأمهات الأولاد في تسع وخمسين صفحة فقط بينما ضاع معظمه، ويشتمل الثامن على كتاب الجنايات، وكتاب الفرائض، والمواريث، وكتاب الجامع إلى نهاية الكتاب مع بتر صفحات في الأخير كتبه بخط مغربي دقيق مدموج مسعود بن يعزا بن إبراهيم الولصاني البعقيلي للسلطان محمد المهدي الشيخ، وأتم نسخ الجزء السابع يوم الاثنين رابع وعشرين رمضان عام اثنين وخمسين وتسعمائة. وفي الخزانة العامة بالرباط سفر من الذخيرة يبتدئ بكتاب الحجر بعده كتب الغصب، والاستحقاق، واللقطة، واللقيط، والوديعة، والحمالة، والحوالة، والإقرار، والأقضية، والشهادات، وهو من نفس النسخة الملوكية السابقة الذكر التي كتبها مسعود بن يعزا بن إبراهيم الولصاني البعقيلي للسلطان محمد الشيخ انتهى من نسخ هذا السفر ضحوة يوم الأربعاء الرابع والعشرين من جمادى الثانية عام اثنين وخمسين وتسعمائة ماية. لذلك نظن أن هذا السفر يضم الجزءين الخامس، والسادس من هذه النسخة الثمانية، ويكون قد سقط من الجزء السابع كتب الوثائق، والدعاوى، والإيمان، والعتق. سفر الخزانة العامة صين في الجملة إلا أنه وقع تجليده حديثا، فقص السطر الأعلى، أو الأسفل من بعض صفحاته. وفي الخزانة الحسنية بالرباط الجزء الأول من الذخيرة متلاش جدا بفعل الأرضة، وقد كتب بخط مشرقي واضح ينتهي بتمام كتاب الصلاة، فرغ من نسخه محمد بن علي المالكي يوم الأربعاء رابع عشر ذي القعدة عام ستين وثمانمائة. أما مخطوطات الذخيرة الخمس بدار الكتب المصرية، ومخطوط مكتبة طرابلس بليبيا، فقد حصلنا على مصورات منها استعملناها على ما بها من تصحيف، وبياضات عند المقابلة كما سنرى. عملنا في التحقيق: بعد تلفيق كل المخطوطات المشار إليها سابقا بقي ناقصا من كتاب الذخيرة القسم الأخير من كتاب النكاح، وكتاب الطلاق كله، وصدر كتاب البيوع، ونتف من أبواب أخرى نأمل العثور عليها استقبالا في خروم خزانة القرويين، وغيرها لإثباتها في طبعة ثانية، وإذا كانت كثير من أبواب كتاب الذخيرة قد قوبلت بما أمكن الحصول عليه من المخطوطات المكررة التي يكمل بعضها بعضا، فإن هناك أبوابا أخرى غير قليلة لم يتأت مقابلتها لوجودها في مخطوطة فريدة، أو لم يمكن تحقيق كلمات، أو سطور مطموسة فيها بسبب الرطوبة، أو الأرضة، أو القص بل هناك صفحات اسودت، وتعذرت قراءتها، وعسى أن يمكن تدارك ذلك في طبعة مقبلة. وقد رجعنا عند المقابلة إلى المقدمة الثانية للذخيرة في الأصول التي نشرها سنة 1973 طه عبد الرءوف سعد ضمن شرح تنقيح الفصول، وإلى الجزء الأول الذي طبعته كلية الشريعة بالأزهر عام 1961/381 بإشراف الشيخين عبد الوهاب عبد اللطيف، وعبد السميع أحمد إمام، ثم أعادت طبعه وزارة الأوقاف، والشؤون الإسلامية بمطبعة الموسوعة الفقهية عام 1982/1402، فألفيناه رغم جهود الشيخين، واجتهاداتهما مليئا بالتصحيف، والبتر، والعذر لهما أنهما لم يطلعا في إعداده إلا على مخطوطة دار الكتب المصرية، وهي كثيرة القلب، والحذف، والبياضات، والتزمنا في الهوامش بذكر السور، وأرقام الآيات القرآنية، وتخريج الأحاديث التي لم يذكر القرافي مصادرها، ورمزنا عند المقابلة إلى مخطوطات القرويين بـ ق 5، وق 8، ومخطوطة الخزانة العامة بالرباط بـ خ، ومخطوطات خزانة ابن يوسف بـ ي، ومخطوطات دار الكتب المصرية بـ د، ومخطوطة ليبيا بـ ل، وإلى المقدمة المطبوعة بـ ت والجزء الأول المطبوع بـ ط. ولا يفوتنا هنا أن نزجي خالص الشكر لصديقنا الأستاذ الحاج الحبيب اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي على عنايته الفائقة بنشر التراث المالكي الأصيل، فبعد معيار الونشريسي، والبيان، والتحصيل، والمقدمات الممهدات لابن رشد ها هو يخرج إلى النور موسوعة أخرى في الفقه المالكي، وأصوله طالما ظلت حبيسة رفوف خزائن المخطوطات، واستعصت على كل من حاول نشرها من المعاهد، والمؤسسات، وعسى أن تسهم ذخيرة القرافي إلى جانب ما ينشر من الأمهات الفقهية في تنشيط الدراسات الحديثة الواعدة برجوع المسلمين إلى أحكام الله، ورسوله في عباداتهم، ومعاملاتهم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا. سلا في ربيع الأول عام 1411، فاتح شتنبر 1990 محمد الحجي. صفحه أولى من مخطوط الجزء الأول من الذخيرة في خزانة ابن يوسف بمراكش، ثم نسخة في ذي حجة عام 729. اللوحة الأخيرة من الجزء الأول من كتاب الذخيرة مخطوط خزانة ابن يوسف بمراكش كتب عام 729. صفحة أخيرة من مخطوط السفر السابع من الذخيرة في خزانة ابن يوسف بمراكش، ثم نسخة في ربيع الثاني عام 943. صفحة أولى من مخطوط جزء البيوع من الذخيرة في دار الكتب المصرية. اللوحة الأولى من الجزء الأول من كتاب الذخيرة مخطوط عتيق متلاش بالخزانة الحسنية بالرباط. اللوحة الأخيرة من الجزء الأول من كتاب الذخيرة مخطوط الخزانة الحسنية بالرباط كتب عام 860. اللوحة الأخيرة من الجزء الثاني من كتاب الذخيرة (الرابع) مخطوط خزانة ابن يوسف بمراكش كتب عام 952. اللوحة الأولى من الجزء الثالث من كتاب الذخيرة (الخامس) مخطوط، وقفي مبتور في خزانة ابن يوسف بمراكش. اللوحة الأخيرة من الجزء الخامس من كتاب الذخيرة مخطوط خزانة القرويين بفاس كتب عام أقدم مخطوط للذخيرة، وقفنا عليه. اللوحة الأخيرة من الجزء السادس من كتاب الذخيرة مخطوط الخزانة العامة بالرباط انتسخ للسلطان محمد المهدي الشيخ عام 952. اللوحة الأخيرة من السفر السابع من كتاب الذخيرة مخطوط خزانة ابن يوسف بمراكش انتسخ للسلطان محمد المهدي الشيخ عام 952. اللوحة الأخيرة من الجزء الثامن من كتاب الذخيرة مخطوط القرويين بفاس تنقصه صفحة، أو صفحتان بعد هذه اللوحة. بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا ومولانا محمد النبي المصطفى الكريم يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه أحمد بن إدريس المالكي: الحمد لله الذي تجلى لخلقه في عجائب مبتدعات صنعته، واحتجب عنهم بسرادقات كمالات هويته، وتفرد بوجوب الوجود، فهو الأبدي في قيوميته، وتوحد بالإيجاد، فكل الأكوان خاضعة لجلال هيبته، وتنزه عن الشبيه، والشريك، فهو الواحد الأحد في إلهيته استخلص العلماء بمواهب عنايته، فأطلع شموس العلوم في آفاق سرائرهم، فأشرقت عرصات الأرواح بآثار رحمته، وأينعت رياض الأشباح بثمرات المعارف، فأضحت حالية بجميل طاعته، فهم السامعون لتفاصيل مناجاته، والحاملون لأعباء رسالاته، والعاملون بمحاسن مشروعاته، فأولئك مشكاة أنواره، ومعدن أسراره، والهائمون بجمال صفاته، والهانئون بجلال عظمة ذاته، والفانون عن الأكوان بملاحظات بهاء وارداته، فهم خير بريته من سائر مخلوقاته، ونحن الضارعون بضعفنا لجلاله، والمبتهلون بنقصنا لكماله أن يفيض علينا كما أفاض عليهم من نعمته. وأفضل الصلوات، والتسليمات على أفضل الصادرين عن قدرته: محمد المبعوث بأفضل الرسائل، وأقرب الوسائل إلى دار كرامته، الجامع بين ذروة مكارم الأخلاق، وخلاصة شرف الأعراق في حوزته، المخصوص بسيادة الدنيا لعموم رسالته، واستيلاء ملك ثناء، وانفاد، وارتفاع علو منزلته، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه، وعترته أساة المضايق، وهداة الخلائق إلى أفضل الطرائق من سيرته. أما بعد: فإن الفقه عماد الحق، ونظام الخلق، ووسيلة السعادة الأبدية، ولباب الرسالة المحمدية، من تحلى بلباسه فقد ساد، ومن بالغ في ضبط معالمه فقد شاد، ومن أجله تحقيقا، وأقربه إلى الحق طريقا: مذهب إمام دار الهجرة النبوية، واختبارات آرائه المرضية لأمور: منها: ورود الحديث النبوي فيه، وتظاهر الآثار بشرف معاليه، واختصاصه بمهبط الرسالة، وامتيازه بضبط أقضية الصحابة حتى يقول إمام الحرمين - رحمه الله -: وأما مالك - رحمه الله - في أقضية الصحابة رضي الله عنهم، فلا يشق غباره، ويقول الشافعي - رحمه الله -: إذا ذكر الحديث، فمالك النجم، ويقول أيضا لأبي يوسف: أنشدك الله أصاحبنا يعني مالكا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم يعني أبا حنيفة، فقال صاحبكم، فقال أصاحبنا أعلم بسنة رسول الله أم صاحبكم، فقال صاحبكم، فقال أصاحبنا أعلم بأقضية الصحابة رضوان الله عليهم أم صاحبكم، فقال صاحبكم، فقال، فإذن لم يبق لصاحبكم إلا القياس، وهو فرع النصوص، ومن كان أعلم بالأصل كان أعلم بالفرع. ومنها: طول عمره في الإقراء، والإفتاء سنين، ومعلوم أنهما ينبوع الاطلاع. ومنها: أنه أملى في مذهبه نحوا من مائة وخمسين مجلدا في الأحكام الشرعية، فلا يكاد يقع فرع إلا ويوجد له فيه فتيا بخلاف غيره ممن لا يكاد يجد له أصحابه إلا القليل من المجلدات: كالأم للشافعي، وفتاوي مفرقة في مذهب أحمد، وأبي حنيفة في كتب أصحابهم، ثم خرج أصحابهم بقية مذاهبهم على مناسبات أقوال أئمتهم، ومعلوم أن التخريج قد يوافق إرادة صاحب الأصل، وقد يخالفها حتى لو عرض عليه المخرج على أصله لأنكره، وهذا معلوم بالضرورة، ولا خفاء أن من قلد مذهبا فقد جعل إمامه واسطة بينه وبين الله تعالى، وسكون النفوس إلى قول الإمام القدوة أكثر من سكونها إلى أتباعه بالضرورة. ومنها: أن الله تعالى أسعده، وسدده لعمل أهل المدينة الذين ينقل أبناؤهم عن آبائهم، وأخلافهم عن أسلافهم الأحكام، والسنن النقل المتواتر بسبب جمع الدار لهم، ولأسلافهم، فيخرج المسند عن حيز الظن، والتخمين إلى حيز العلم، واليقين، وغيره لم يظفر بذلك، ولذلك لما شاهد أبو يوسف مستند مالك في الصاع، والأذان، والأوقات، وكثير من الأحكام الشرعيات رجع عن مذهب صاحبه إلى مذهب مالك رحمة الله عليهم أجمعين. ومنها: ما ظهر من مذهبه في أهل المغرب، واختصاصهم به، وتصميمهم عليه مع شهادته عليه السلام لهم بأن الحق يكون فيهم، ولا يضرهم من خذلهم إلى أن تقوم الساعة، فتكون هذه الشهادة لهم شهادة له بأن مذهبه حق لأنه شعارهم، ودثارهم، ولا طريق لهم سواه، وغيره لم تحصل له هذه الشهادة. ولما وهبني الله من فضله أن جعلني من جملة طلبته الكاتبين في صحيفته تعين علي القيام بحقه بحسب الإمكان، واستفراغ الجهد في مكافأة الإحسان، فوجدت أخيار علمائنا رضي الله عنهم قد أتوا في كتبهم بالحكم الفائقة والألفاظ الرائقة، والمعاني الباهرة، والحجج القاهرة غير أنهم يتبعون الفتاوي في مواطنها حيث كانت، ويتكلمون عليها أين وجدت مع قطع النظر عن معاقد الترتيب، ونظام التهذيب كشراح المدونة، وغيرها، ومنهم من سلك الترتيب البديع، وأجاد فيه الصنيع كالإمام العلامة كمال الدين صاحب الجواهر الثمينة - رحمه الله -، واقتصر على ذلك مع اليسير من التنبيه على بعض التوجيه. وأنت تعلم أن الفقه وإن جل، إذا كان مفترقا تبددت حكمته، وقلت طلاوته، وبعدت عند النفوس طلبته، وإذا رتبت الأحكام مخرجة على قواعد الشرع مبنية على مآخذها نهضت الهمم حينئذ لاقتباسها، وأعجبت غاية الإعجاب بتقمص لباسها. وقد آثرت أن أجمع بين الكتب الخمسة التي عكف عليها المالكيون شرقا، وغربا حتى لا يفوت أحدا من الناس مطلب، ولا يعوزه أرب. وهي: المدونة، والجواهر، والتلقين، والجلاب، والرسالة، جمعا مرتبا بحيث يستقر كل فرع في مركزه، ولا يوجد في غيره حيزه على قانون المناسبة في تأخير ما يتعين تأخيره، وتقديم ما يتعين تقديمه من الكتب، والأبواب، والفصول متميزة الفروع حتى إذا رأى الإنسان الفرع، فإن كان مقصوده طالعه، وإلا أعرض عنه، فلا يضيع الزمان في غير مقصوده. وأعزي الفرع إلى المدونة إن كان مشتركا بينها وبين غيرها، أو خاصا بها. فإن لم يكن منها عزيته لكتابه ليكون الفقيه على ثقة من نقله لعلمه بالكتاب المنقول منه، ومتى شاء راجعه. ومتى وجدت الفرع أتم في كتابه نقلته منه، وأعرضت عن غيره، وإن كان منقولا فيه إلا المدونة، فإني أدأب في استيعابها غير أول الطهارة، فإنه مستوعب من غيرها، فإنه نزر. ومتى كانت فروع منقولة عن واحد سميته في الفرع الأول، وأقتصر بعد ذلك على قولي قال، ولا أسميه طلبا للاختصار. وإذا قلت: قال في الكتاب، فهو المدونة. وأقدم المشهور على غيره من الأقوال ليستدل الفقيه بتقديمه على مشهوريته إلا أن يتعذر ذلك لتساوي الأقوال، أو لوقوع الخلاف بين الأصحاب في المشهور اختلافا على السواء، وهذا قليل في المذهب يعلم بقرينة البحث فيه. واخترت أن أقول: قال صاحب البيان، أو قال صاحب المقدمات، أو صاحب النكت لأجمع بين القائل، والكتاب المقول فيه، فإن صاحب البيان قد ينقل في المقدمات، وصاحب النكت قد ينقل في تهذيب الطالب. ومتى قلت قال المازري، فهو في شرح التلقين تركته لطول الاسم. وقد آثرت التنبيه على مذاهب المخالفين لنا من الأئمة الثلاثة رحمهم الله، ومآخذهم في كثير من المسائل تكميلا للفائدة، ومزيدا في الاطلاع، فإن الحق ليس محصورا في جهة، فيعلم الفقيه أي المذهبين أقرب للتقوى، وأعلق بالسبب الأقوى. وقد جعلت الشين علامة للشافعي، والحاء علامة لأبي حنيفة تقليلا للحجم، والأئمة علامة للشافعي، وأبي حنيفة، وابن حنبل، والصحاح علامة لمسلم، والبخاري، والموطأ. وأودعته ما تحتاجه الأبواب من اللغة في الاشتقاق، وغيره، وما تحتاجه من النحو. وأضيف الأحاديث إلى مصنفيها لتقوية الحجة في المناظرة، والعلم بقوة السند من ضعفه، وأتكلم على الأحاديث بما تحتاجه من إشكال، أو جوابه فيه، أو إثارة، فائدة منه. وأضيف الأقوال إلى قائلها إن أمكن ليعلم الإنسان التفاوت بين القولين بسبب التفاوت بين القائلين بخلاف ما يقول كثير من أصحابنا في المسألة قولان من غير تعيين، فلا يدري الإنسان من يجعله بينه، وبين الله تعالى من القائلين، ولعل قائلهما واحد، وقد رجع عن أحدهما، فإهمال ذلك مؤلم في التصانيف. وأودعته من أصول الفقه، وقواعد الشرع، وأسرار الأحكام، وضوابط الفروع ما فتح الله علي به من فضله مضافا لما أجد في كتب الأصحاب بحسب الإمكان، والتيسير. وقد جمعت له من تصانيف المذهب نحو أربعين تصنيفا ما بين شرح، وكتاب مستقل خارجا عن كتب الحديث، واللغة، ولا يكاد أحد يجد فيها فرعا إلا نقلته مضافا لما جمعته، وأطالعها جميعها قبل وضع الباب، وحينئذ أضعه، وما كان من الفروع يندرج تحت غيره تركته، فلا معنى لإعادة اللفظ بغير فائدة. وأقصد أن يكون لفظه خاليا عن التطويل الممل، والاختصار المخل. وأقدم بين يديه مقدمتين إحداهما: في بيان فضيلة العلم، وآدابه ليكون ذلك معدنا، وتقوية لطلابه، والمقدمة الأخرى في قواعد الفقه، وأصوله، وما يحتاج إليه من نفائس العلم مما يكون حلية للفقيه، وجنة للمناظر، وعونا على التحصيل. وبينت مذهب مالك - رحمه الله - في أصول الفقه ليظهر علو شرفه في اختياره في الأصول كما ظهر في الفروع، ويطلع الفقيه على موافقة لأصله، أو مخالفته له لمعارض أرجح منه، فيطلبه حتى يطلع على مدركه، ويطلع المخالفين في المناظرات على أصله. وأنقح إن شاء كتاب الفرائض، وأمهد قواعده، وما عليها من نقوض، وأقرر ما أجده، وأودع فيه من الجبر، والمقابلة ما يحتاج إليه، فإني لم أره في كتبنا بل في كتب الشافعية، والحنفية، وهو من الأسرار العجيبة التي لا يمكن أن يخرج كثير من مسائل الفرائض، والوصايا، والنكاح، والخلع، والبيع، والإجارة إلا بها، وأمهد إن شاء الله كتاب الجامع منه تمهيدا جميلا. ولما نظرت إلى هذه المقاصد، وما اشتملت عليه من الفوائد سميته بالذخيرة وهو ذخيرة إن شاء الله للمعاد لقوله – صلى الله عليه وسلم -: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به، أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له. وهو ذخيرة لطلبة العلم في تحصيل مطالبهم، وتقريب مقاصدهم، فكل من أراد منهم إقراء كتاب من الكتب الخمسة، أو قراءته وجد فروعه فيه مشروحة ممهدة، والله تعالى هو المسئول في العون على خلوص النية، وحصول البغية، فإن الخير كله بيديه، ولا ملجأ منه إلا إليه. وفيها فصلان: أما الكتاب: فمن وجوه: الأول: أن تقول خير البرية من يخشى الله تعالى، وكل من يخشى الله تعالى فهو عالم، فخير البرية عالم. بيان الأولى قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصاحات أولئك هم خير البرية). إلى قوله: (ذلك لمن خشي ربه) فأثبت الخشية لخير البرية، وهو المطلوب. وبيان الثانية قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) أضاف سبحانه الخشية إلى كل عالم على وجه الحصر، فيكون كل من يخشى الله تعالى فهو عالم، وهو المطلوب. الثاني: قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط). بدأ بنفسه، وثنى بالملائكة، وثلث بالعلماء دون سائر خلقه، فيكون من عداهم دونهم، وهو المطلوب. الثالث: قوله تعالى: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما).وعادة العرب في سياق الامتنان تأخير الأفضل، وتقديم المفضول على الأفضل، فتكون موهبته عليه الصلاة والسلام من العلم أفضل من موهبته من الإنزال المتضمن للنبوة، والرسالة، وهذا شرف عظيم شب فيه عمرو عن الطوق. الرابع: في قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام في أمر الهدهد: (لأعذبنه عذابا شديدا). فلما جاء الهدهد قال:(أحطت بما لم تحط به)، فاشتدت نفسه، واستعلت همته بما علمه على سيد أهل الزمان، ورسول الملك الديان مع عظم ملكه، وهيبة مجلسه، وعلم الهدهد بحقارة نفسه، وما تقرر عند سليمان عليه السلام من جريمته، والعزم على عقوبته. فلولا أن العلم يرفع من الثرى إلى الثريا لما عظم الهدهد بعد أن كان يود أن لو كان نسيا منسيا، فلا جرم أبدل له العقوبة بالإكرام النفيس، وأسبغ عليه خلع الرسالة إلى بلقيس. وأما السنة فمن وجوه: الأول: ما في الموطأ من يرد الله خيرا يفقهه في الدين. والقاعدة أن المبتدأ محصور في الخبر، والشرط اللغوي محصور في مشروطه لأنه سبب، فيكون المراد: الخير محصور في المتفقه، فمن ليس بمتفقه لا خير فيه. الثاني: ما في أبي داود قال - صلى الله عليه وسلم -: من سلك طريقا يطلب فيها علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم. وإن العالم ليستغفر له من في السماوات، ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وإن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر. فأما الطريق التي يسلك به فيها إلى الجنة، فمعناه أن هذه الحالة سبب موصل إلى الجنة. وأما وضع الملائكة أجنحتها، فقيل تكف عن الطيران، فتجلس إليه لتستمع منه، وقيل تكف عن الطيران توقيرا له، وقيل تكف عن الطيران لتبسط أجنحتها له بالدعاء، ولو لم تعلم الملائكة أن منزلته عند الله تستحق ذلك لما فعلته. فينبغي لكل أحد من الملوك فمن دونهم أن يتواضعوا لطلبة العلم اتباعا لملائكة الله تعالى، وخاصة ملكه. وأما استغفارهم له، فهو طلب، ودعاء له بالمغفرة، وأحدنا يسافر البلاد البعيدة للرجل الصالح لعله يدعو له، فما ظنك بدعاء قوم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، فيا حبذا هذه النعمة. وأما التشبيه بالبدر، ففيه فوائد إحداها: أن العالم يكمل بقدر اتباعه للنبي لأن النبي عليه السلام هو الشمس لقوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا). والسراج هو الشمس لقوله تعالى: (وجعلنا سراجا وهاجا). ولما كان القمر يستفيد ضوءه من الشمس وكلما كثر توجهه إليها كثر ضوؤه حتى يصير بدرا، فكذلك العالم كلما كثر توجهه للنبي، وإقباله عليه توفر كماله. وثانيتها: أن العالم متى أعرض عن النبي بكليته كسف باله، وفسد حاله كما أن القمر إذا حيل بينه، وبين الشمس كسف، خلافا لمن يزعم أن العلوم تتلقى بالتوجه، ولا يحتاج فيها إلى النبوة. وثالثها: أن الكوكب مع البدر كالمطموس الذي لا أثر له، وضوء البدر عظيم المنفعة، منتشر الأضواء، منبعث الأشعة في الأقطار برا، وبحرا، وهذا هو شأن العالم، وأما العابد، فالكوكب حينئذ لا يتعدى نوره محله، ولا يصل نفعه إلى غيره. الثالث: ما في الترمذي أنه عليه السلام ذكر له رجلان عالم، وعابد، فقال عليه السلام: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، ثم قال عليه السلام: وإن الله تبارك وتعالى وملائكته، وأهل السماوات، والأرض حتى النملة في جحرها يصلون على معلمي الناس خيرا. وهذا الحديث أبلغ من الأول بكثير جدا، فإن فضله على أدناهم أعظم من فضل القمر على الكواكب أضعافا مضاعفة. الرابع: ما روى ابن أبي زيد في جامع المختصر عن ابن القاسم أنه قال: روي أنه عليه السلام قال: ما جميع أعمال البر في الجهاد إلا كنقطة في بحر، وما جميع أعمال البر، والجهاد في طلب العلم، وفضله إلا كنقطة في بحر. ويؤيده ما في الخبر: يوزن مداد العلماء، ودم الشهداء يوم القيامة، فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء. ومعلوم أن أعلى ما للشهيد دمه، وأدنى ما للعالم مداده، فإذا رجح الأدنى على الأعلى، فما الظن بالأعلى مع الأدنى. الخامس: ما في الترمذي أنه عليه السلام قال: ما عند الله شيء أفضل من الفقه في الدين، ولفقيه واحد أشد على إبليس من ألف عابد، ولكل شيء قوام، وقوام الدين الفقه، ولكل شيء دعامة، ودعامة الدين الفقه. السادس: أنه عليه السلام قال: قليل الفقه خير من كثير العبادة. السابع: أنه عليه السلام قال: إن الله يجمع العلماء في صعيد واحد، فيقول يا معشر العلماء إني لم أوتكم علمي، وحكمتي إلا لخير أردته بكم أشهدكم أني قد غفرت لكم ما كان منكم. وأما المعنى فمن وجوه: الأول: أن العلم معتبر في الإلهية، وكفى بذلك شرفا عند كل عاقل على العبادات، وغيرها. وثانيها: أن كل خير مكتسب في العالم، فهو بسبب العلم، وكل شر يكتسب في العالم، فهو بسبب الجهل، والاستقراء يحقق ذلك. ثالثها: أن الله تعالى لما أراد بيان فضل آدم على الملائكة، وإقامة الحجة عليهم علمه أسماء الأشياء، أو علاماتها على خلاف في ذلك، ثم سألهم، فلم يعلموا، وسأله، فعلم، وعلم، فاعترفوا حينئذ بفضيلته، وأمرهم بالسجود له في وقت واحد تعظيما لمنزلته، وخالف إبليس في ذلك، فباء من الله تعالى بقبيح لعنته، وهذا حال العلم بأسماء الأشياء، أو علاماتها، فكيف بالعلم بحدود الدين، وما يتوصل به إلى رب العالمين. ورابعها: أن الكلب أخس الأشياء لقذارته، وأذيته، وسوء حالته، فإذا اتصف بعلم الاصطياد شرفه الشرع، وعظمه، وجعل صيده حينئذ قوام الأجساد، ومحترما عن الإفساد. وخامسها: أن العالم ينقل عن الحق للخلق، فيقول إن الله تعالى حرم عليكم كذا، وأوجب عليكم كذا، وأذن لكم في كذا، وأمركم بتقديم كذا، وتأخير كذا، فهو القائم بأمر الله تعالى في خلقه، وموصله إلى مستحقه، والدافع عنه تحريف المحرفين، وتبديل المبدلين، وشبه المبطلين، وهذا هو معنى مقام المرسلين. ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يتصور نفسه في هذا المقام، ويعاملها بما يليق بها من الاحترام، فإن الرسول إذا ورد من عند ملك عظيم قبح عليه أن يمشي إلى بيوت الأمراء، وفي الأسواق، أو يتقاصر عن مكارم الأخلاق صونا لتعظيم مرسله، وهذا معلوم في العوائد، فكذلك طالب العلم ينبغي له أن يبعد نفسه عن الدناءات بل عن كثير من المباحات صونا لشرف منصبه، وتعزيزا لثمرات مطلبه. وسادسها: أن قيمة الإنسان ما يعلمه لا ما يعلمه لقول علي - رضي الله عنه -: المرء مخبوء تحت لسانه، وما قال تحت ثيابه، ومعنى هذا الاختباء أنه إن نطق بشر ظهرت خسته، ودناءته، وبخير ظهر شرفه، وإن لم ينطق بشيء، فهو عدم محض عند مشاهده. وقال علي - رضي الله عنه -: المرء بأصغريه قلبه، ولسانه، ولم يقل بيديه أي هو معتبر بهما، فإن رفعاه ارتفع، وإن وضعاه اتضع، فالقلب معدن الحكم، واللسان ترجمانه، وما عداه في حكم الأعوان البعيدة التي لا اعتداد بها، وأنشد علي - رضي الله عنه - في هذا المعنى: الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم، والأم حواء فإن أتيت بفخر من ذوي نسب فإن نسبتنا الطين، والماء ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء وقيمة المرء ما قد كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء فاطلب لنفسك علما، واكتسب أدبا فالناس موتى، وأهل العلم أحياء وسابعها: أن العلم على عظيم قدره، وشريف معناه يزيد بكثرة الإنفاق، وينقص مع الإشفاق، وهذه فضيلة جليلة آخذة بآفاق الشرف جعلنا الله تعالى من أهله القائمين بحقوقه بمنه، وكرمه. وثامنها: أن العلماء وصلوا بحقيقة العلم إلى عين اليقين، فشاهدوا الأخطار، والأوطار بالأفق المبين، فاستلانوا ما استوعره المترفون، واستأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وفازوا بما قعد عند المقصرون، فهم مع جلسائهم بأشباحهم، وفي الملأ الأعلى بأرواحهم، فلا جرم هم أحياء، وإن ماتت الأبدان، على ممر الدهور، والأزمان، غابت أعيانهم عن العيان، وصورهم مشاهدة في الجنان، والجنان، جعلنا الله تبارك وتعالى ممن أخذ من هداهم بأوثق نصيب، ونافس في نفائسهم إنه قريب مجيب. اعلم أن أعظمها: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، فإنه إذا فقد انتقل العلم من أفضل الطاعات إلى أقبح المخالفات قال الله تعالى: (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون). وروى ابن زيد في جامع المختصر أنه عليه السلام قال: ويل لمن علم، ولم ينفعه علمه سبع مرات.ثم قال: ويل لمن لم يعلم، ولو شاء الله لعلمه ثلاث مرات. ويروى عنه عليه السلام: يأمر الله تعالى بطائفة من العلماء، والقراء، والمجاهدين إلى النار، ويقول لكل طائفة منهم إنما عملت ليقال، وقد قيل.الحديث بطوله. وروى ابن أبي زيد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: من تعلم العلم ليماري به، أو ليباهي به، أو ليرائي به أوقفه الله موقف الذل والصغار، وجعله عليه حجة يوم القيامة يوم يكون العلم زينا لأهله. وروى أيضا عنه عليه السلام: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة. وحقيقة الرياء أن يعمل الطاعة لله، وللناس، ويسمى رياء الشرك، أو للناس خاصة، ويسمى رياء الإخلاص، وكلاهما يصير الطاعة معصية. وأغراض الرياء الباعثة عليه منحصرة في ثلاثة جلب الخيور، ودفع الشرور، والتعظيم. ويلحق بالرياء التسميع، وهو أن يقول علمت كذا، أو حفظت كذا، أو غير ذلك من أعمال البر، والتسميع يكون بعد انعقاد العبادة معصية على الرياء، وبعد انعقادها طاعة مع الإخلاص لكن في الأول يكون جامعا بين معصيتي الرياء، والتسميع، وفي الثاني هو عاص بالتسميع فقط، فتقابل سيئة التسميع حسنة الطاعة المسمع بها في الموازنة، فربما استويا، وربما رجحت إحداهما على حسب مقادير الطاعات، والتسميع. والأصل في التسميع قول عليه السلام: من سمع سمع الله به أسامع خلقه يوم القيامة. أي ينادي مناد من قبل الله تعالى: عبدي فلان عمل عملا لي، ثم تقرب به لغيري نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. واعلم يا أخي أن هذا مقام تشيب منه النواصي، ولا يعتصم منه بالصياصي، فينبغي لك أن توفر العناية عليه، والجد فيه مستعينا بالله تعالى، فمن لم يساعده القدر، ولم ينفعه الحذر، ولقد قطع الكبر من استكبر. إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده ولكني أدلك على أعظم الوسائل مع بذل الاجتهاد، وهو أن تكون مع بذل جهدك شديد الخوف عظيم الافتقار ملقيا للسلاح معتمدا على ذي الجلال مخرجا لنفسك من التدبير، فإن هذه الوسيلة هي العروة الوثقى لماسكها، وطريق السلامة لسالكها، والله تعالى هو المسئول المبتهل لجلاله في السلامة من عذابه. فما لجلدي بحر النار من جلد ولا لقلبي بهول الحشر من قبل واعلم أنه ليس من الرياء قصد اشتهار النفس بالعلم لطلب الاقتداء بل هو من أعظم القربات، فإنه سعي في تكثير الطاعات، وتقليل المخالفات، وكذلك قال إبراهيم عليه السلام: واجعل لي لسان صدق في الآخرين. قال العلماء معناه يقتدي بي من بعدي، ولهذا المعنى أشار عليه السلام بقوله: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به. الحديث. حضا على نشر العلم ليبقى بعد الإنسان لتكثير النفع، ومنه قوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك). على أحد الأقوال. وقال العلماء بالله: ينبغي للعابد السعي في الخمول، والعزلة، لأنهما أقرب إلى السلامة، وللعالم السعي في الشهرة، والظهور تحصيلا للإفادة، ولكنه مقام كثير الخطر، فربما غلبت النفس، وانتقل الإنسان من هذا المعنى إلى طلب الرئاسة، وتحصيل أغراض الرياء، والله المستعان، وهو حسبنا في الأمر كله. الثاني: ينبغي لطالب العلم أن يحسن ظاهره، وباطنه، وسره، وعلانيته، وأفعاله، وأقواله، فلقد أحسن من قال: فالعيب في الجاهل المغمور مغمور وعيب ذي الشرف المذكور مذكور قلامة الظفر تخفى من حقارتها ومثلها في سواد العين مشهور ولهذا المعنى قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات. أي لو فعلت ذلك لعذبناك مثل عذاب غيرك في الدنيا مرتين، ومثل عذابه في الآخرة مرتين، وكذلك في قوله تعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين). وهذه عادة الله تعالى في خلقه من عظمت عليه نعمته اشتدت عليه نقمته، ولذلك رجم المحصن في الزنا، وجلد البكر، ولأن اشتهاره بالخير يبعث على الاقتداء به، فيحصل له كمال السعادة الدنياوية، ووقور السمت، ويصير للمتقين إماما، واشتهاره بالدناءة ينفر النفوس منه، فتفوته هذه المنزلة بل ينبغي له أن يكتم من الحق ما تنفر منه عقول جلسائه، وأهل زمانه، وأن يخاطب الناس على قدر عقولهم، فإنه إن يفعل ذلك لم يحصل مقصوده من إظهار ذلك الحق، ولا من غيره، ففي الحديث: من خاطب قوما بما لم تصل إليه عقولهم كان عليهم فتنة. اللهم إلا أن يكون مما أوجب الله تعالى إظهاره كقواعد الدين، وإبطال شبه الضالين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيعتمد على قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر). ومن رضي الله تعالى عنه، فلا يضره غضب غيره. إذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضبانا علي شرارها قال مالك - رحمه الله - في المختصر: حق على طالب العلم أن يكون فيه وقار، وسكينة، وخشية، واتباع لأثر من مضى قبله. وقال الحسن - رحمه الله -: كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في وجهه، وتخشعه، ولسانه، ويده، وصلواته. وقال عليه السلام: ما ضم شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم. وقال عمر - رضي الله عنه -: تعلموا للعلم السكينة، والوقار، وتواضعوا لمن تتعلمون منه، ولمن تعلمونه، وإياكم أن تكونوا من جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم. وقال أبو حازم - رحمه الله -: كان العالم فيما مضى إذا لقي من هو فوقه في العلم كان يوم غنيمة، أو من هو مثله ذاكره، أو من هو دونه لم يزه عليه، ثم كان هذا الزمان أن صار الرجل إذا لقي من فوقه انقطع عنه حتى لا يرى الناس أن به حاجة إليه، وإذا لقي من هو مثله لم يذاكره، ويزهو على من هو دونه. وقال أبن أبي ليلى: أدركت عشرين ومائة من الصحابة، والأنصار ما منهم أحد يسأل عن شيء إلا ود أن صاحبه كفاه الفتيا. وقال مالك: جنة العالم لا أدري، فإذا أخطأ أصيبت مقاتله. وقال كان الصديق يسأل عن الشيء، فيقول لا أدري، وأحدكم اليوم يأنف أن يقول لا أدري. قال مطرف - رحمه الله -: ما رأيت أكثر قولا من مالك لا أدري، وقال بعض الفضلاء: إذا قلت لا أدري علمت حتى تدري، وإذا قلت أدري سئلت حتى لا تدري، فصار لا أدري وسيلة إلى العلم، وأدري وسيلة للجهل، ولذلك قال أبو الدرداء: قول الرجل فيما لا يعلم لا أعلم نصف العلم. ولما تعلم الحسن - رضي الله عنه - العلم أقام أربعين سنة لم يتكلم به، وأفتى مالك - رحمه الله - بعد أربعين سنة، وحلق ابن سبع عشرة سنة، وكان يقول لا يفتي العالم حتى يراه الناس أهلا للفتوى قال سحنون: يريد العلماء قال ابن هرمز: ويرى هو نفسه أهلا لذلك. الثالث: أن يوفي الأمانة في العلم، فلا يعطيه لغير أهله، ولا يمنعه أهله، فإن العلم يزيد النفس الشريرة شرا، والخيرة خيرا قال المحاسبي - رحمه الله - العلم كالغيث ينزل من السماء كله حلو يزيد الحلو حلاوة، والمر مرارة، وقال الغزالي - رحمه الله -: تعليم العلم لأهل الشر كبيع السيف من قاطع الطريق. وبعث الشافعي لمحمد بن الحسن رضي الله عنهما يستعير منه كتبا، فتوقف عليه، فكتب إليه: قل للذي لم تر عين من رآه مثله حتى كان من رآه قد رأى من قبله العلم ينهي أهله أن يمنعوه أهله لعله يبذله لأهله لعله فبعث إليه بوقر بعير، فقوله ينهي أهله أن يمنعوه أهله يفيد الدفع للأهل، والمنع من غير الأهل، والأصل في هذه القاعدة قوله عليه السلام: لا تعطوا الحكمة لغير أهلها، فتظلموها. سؤال: إذ كان الغالب على الناس اليوم في طلب العلم الرياء، والمباهاة، وسوء الحالة، فالمعلم لهم معين لهم على هذه المعاصي، والإعانة على المعصية معصية، فيحرم التعليم حينئذ على الإطلاق نظرا إلى الغالب. جوابه: هذا سؤال مشكل، وقد اضطربت فيه فتاوى العلماء، فمنهم من يقول لو اعتبرنا هذا لانحسمت مادة التعليم، والإقراء، فينقطع الشرع، ويفسد النظام، فيؤدي ذلك إلى إطفاء نور الحق، وإضلال الخلق حتى يطبق الأرض الكفر، ومعلوم أن هذه المفاسد أعظم من الرياء الذي قد يقع، وقد لا يقع، فإنا وإن قطعنا بوقوعه في الجملة لكنا لا نعلم حال كل أحد على انفراده، فإن الله تعالى متولي السرائر، فما استوى الأمران، ولا وقوعهما. ولأن العلم قربة محققة، وهذه المعاصي أمور عارضة الأصل عدمها في كل شخص معين. ومنهم من يقول: بل يتعين ذلك، ولا يجوز التعليم إلا لمن يغلب على الظن سلامته من هذه المعاصي طردا لقاعدة إلحاق الوسائل بالمقاصد. وأما قول الأولين: إن اعتبار ذلك يؤدي إلى انقطاع الشرع، وتطبيق الكفر، فأجاب الغزالي عنه، فقال لا نسلم أنه يلزم من تحريم التعليم انقطاع الشرع لأن الطباع مجبولة على حب الرئاسة، ولا سيما بألقاب العلوم، ومناصب النبوة بل ناب الطبع مناب الشرع في النظر، فإن الطباع مجبولة على رؤية المستغربات، والفكرة فيها، وكذلك لم يلزم من تحريم الرياء، وغيره من المحرمات عدمها. الرابع: ينبغي لطالب العلم إذا تعلم مسألة أن ينوي تعليمها كل من هو من أهلها، وكذلك إذا علمها أن ينوي التوسل إلى تعليم كل من يتعلم ممن علمه، فيكون المنوي في الحالين عددا لا يعد، ولا يحصى، وله بكل واحد من ذلك العدد حسنة، فإن وقع منويه كان له عشر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من هم بحسنة، فلم يعلمها كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له عشر. وهذا متجر لا غاية لربحه أعاننا الله تعالى على الخير كله. وقواعد الشرع، واصطلاحات العلماء حتى تخرج الفروع على القواعد، والأصول، فإن كل فقه لم يخرج على القواعد، فليس بشيء. ولم أتعرض فيها لبيان مدارك الأصول، فإن ذلك من وظيفة الأصولي، لا من وظائف الفقيه، فإن مقدمات كل علم توجد فيه مسلمة، فمن أراد ذلك فعليه بكتبه. واعتمدت في هذه المقدمة على أخذ جملة كتاب الإفادة للقاضي عبد الوهاب، وهو مجلدان في أصول الفقه، وجملة الإشارة للباجي، وكلام ابن القصار في أول تعليقه في الخلاف، وكتاب المحصول للإمام فخر الدين بحيث إني لم أترك من هذه الكتب الأربعة إلا المآخذ، والتقسيم، والشيء اليسير من مسائل الأصول مما لا يكاد الفقيه يحتاجه مع أني زدت مباحث، وقواعد، وتلخيصات ليست في المحصول، ولا في سائر الكتب الثلاثة، ولخصت جميع ذلك في مائة فصل، وفصلين في عشرين بابا، وسميتها تنقيح الفصول في علم الأصول لمن أراد أن يكتبها وحدها خارجة عن هذا الكتاب. وهو شرح ما دل عليه اللفظ بطريق الإجمال، وهو غير المحدود إن أريد به اللفظ، ونفسه إن أريد به المعنى. وشرطه: أن يكون جامعا لجملة أفراد المحدود مانعا من دخول غيره معه، ويحترز فيه من التحديد بالمساوي، والأخفى، وما لا يعرف إلا بعد معرفة المحدود، والإجمال في اللفظ. والمعرفات خمسة: الحد التام، والحد الناقص، والرسم التام، والرسم الناقص، وتبديل لفظ بلفظ مرادف له أشهر منه عند السامع. فالأول: التعريف بجملة الأجزاء نحو قولنا: الإنسان هو الحيوان الناطق. والثاني: التعريف بالفصل وحده، وهو الناطق. والثالث: التعريف بالجنس، والخاصة كقولنا: الحيوان الضاحك. والرابع: بالخاصة وحدها نحو قولنا: هو الضاحك. والخامس: وضع أحد المترادفين موضع الآخر، نحو ما هو البر؟ فتقول: القمح.
|